إتصل بنا من نحن إجعلنا صفحتك الرئيسية

خالد يوسف، الإبداع في وجه اغتيال الشخصية


عمان جو - د.مارغو حداد*

على الرغم من الألم الذي ينتابني وأنا أتابع أخبار الاغتيال المعنوي هنا وهناك، إلا أنني أراها مادة مهمة للتأمل والدراسة ومقياسًا جيدًا للحكم على طبيعة المجتمع المنتج لها، أو لمحاولة فهم تفكير أفراده على أقل تقدير؛ ما يجعلني أكثر تمسكًا بموقفي تجاه هذه الممارسات وضرورات التصدي لثقافة "التفاهة" المقيتة التي تحاصرنا أينما ولينا وجوهنا، وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» فإن "التفاهة تشجع المرء على أن يبقى وفياً لقضيته لمجرد أن خصومه لا يغيرون تفاهتهم".

إن الاغتيال المعنوي أو اغتيال الشخصية Character Assassination عملية متعمدة ومستمرة لتشويه الصورة الذهنية للشخصيات المستهدفة، تصل لمزايدات على وطنيتها، أو نزاهتها، وشرفها، هذا النوع من الاستهداف النفسي والمعنوي أخطر بكثير من أي نوع لتصفية الآخر مهما كان؛ لذا فإن معركة التنويريين والمبدعين الحقيقيين في سبيل إثبات أفكارهم والدفاع عنها أو عن أنفسهم إزاء طرحها، كانت وما زالت قائمة عبر تاريخنا العربي منذ الكواكبي، الذي يعد علمًا من أعلام تيار الإصلاح في العالم الإسلامي خلال العصر الحديث، حيث كانت معركته الكبرى مع الاستبداد السياسي، الذي سخّر حياته وقلمه وفكره لمجابهته والتوعية بأخطاره على الشعوب وتقدمها، وقاسى في سبيل ذلك الكثير من آلام الغربة والهجرة ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد؛ كذلك عميد الأدب العربي"طه حسين" الذي تعرض للاغتيال المعنوي والظلم حاله حال كل مصلح ثوري، إذ كرس حياته للثورة ضد مجتمع ميت راضخ لثقافة بالية، ليواجه صراعًا مريرًا مع منتقدي ومحاربي أفكاره التي ظل يحاول تجسيدها في كتاباته من أول كلمة خطها وحتى رحيله، كي يصير نموذجًا للمثقف الواعي الذي يملك مفاتيح العقل، باحثًا به عن الوجود الحر دون قيود أو شروط ودون انصياع أو خضوع للسلطة، ويظهر عليهم بأفكاره التي أمست فيما بعد ميراثًا للحضارة الإنسانية.

هنا لا بد لنا من إدراك أننا معنيون جميعًا بإشاعة القيم التي تتضمن وتستوعب الاعتزاز بالإنسان والإعلاء من مكانته في هذا الوجود ولعلنا قد نزداد تشبثًا بهذا المبدأ عندما نعاين في حاضرنا كثيرًا من مظاهر تحقيره والتنكيل به، ونرى بشكل أوضح أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير في حياتنا

في ضوء ما سبق، نرى الدور الجوهري الذي قام به الأدباء والفنانون، أفكارهم و أعمالهم الإبداعية، في تلك المعركة، حيث استطاعوا إحداث تغيير قيمي وفكري في مجتمعاتهم والمجتمع الإنساني بشكل عام، ومع أن النقد مطلب دائم لضمان المضي في الاتجاه الصحيح يخلط البعض بين النقد والاغتيال المعنوي، فالأول مشروع ناضج لتعزيز المسيرة، والثاني مدان ومرفوض؛ لأنه يهدم المقومات الأخلاقية لأي نشاط كان، وما يحدث يومياً في وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية، من تراشق لاتهامات لا أخلاقية تنتهك إنسانية الفرد، وتجعله مجرد "شيء" لا قيمة ولا كرامة له أمرٌ مؤسف بكل تأكيد.

ما أن انتشر فيديو مشاركة المخرج العربي المثير للجدل "خالد يوسف" في ختام مهرجان القاهرة السينمائي، حتى دشن ناشطون حملة من التشويه والاغتيال المعنوي ضده عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تشهير سطحي مكشوف، وتوزيع تهم اعتباطية، وتأجيج مشاعر الشارع المرتبكة أساسًا. فبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع "خالد يوسف" فإنه من غير المعقول ولا المقبول، أن نوافق على هكذا حملة ضارية تسعى لتشويهه، لكنها على أية حال لم تكن المرة الأولى في حياة هذا الرجل، فعند الوقوف أمام تاريخه نلاحظ أنه مليء بالصدامات والتحديات؛ خاصة فيما يتعلق بجُرأته في تقديم أفلام عالية الجودة، تلتحم في محتواها مع الإنسان المطحون والمهمش، وتشتبك مع أوجاع الشارع العام، مثل"هي فوضى، وحين ميسرة، ودكان شحاتة"، تلك التحديات لم تقتصر على أفلامه و أفكاره وحواراته، إنما تجاوزتها إلى برامج ساخرة تسعى للنيل منه، عبر تلفيق اتهامات مخجلة مسيئة، هذه الحروب الخشنة وجيوش الذباب الإلكتروني باتت تمارس الاغتيال المعنوي في حق العديد من الشخصيات الوطنية والفنية، من أجل إسقاط الرموز وإفقادهم قيمتهم الاعتبارية، لكن "خالد يوسف" نجح كما كل مرة في تجاوز هذه الأزمات، وفرض نفسه بقوة على الساحة كمخرج ومفكر سينمائي استثنائي على الصعيد الإبداعي، و كنائب برلماني من خلال دوره التشريعي والرقابي على الصعيد السياسي.

يعود خالد يوسف اليوم بعمل ضخم يحمل اسم "سر السلطان " يناقش معركة مصر مع المؤامرات الأجنبية والاحتلال الفرنسي انذاك، وربطها مع أحداث الثورة والصراع بين قوى الإرهاب الداخلية، ليثبت للجميع أن معركتنا مع أفكار التطرف والإرهاب، معركتنا في الدفاع عن أوطاننا معركة ممتدة، ويجب أن نخوضها بكل قوانا الفنية والفكرية والسياسية وعلى كل الجبهات، وأن أفضل الأعمال الأدبية والدرامية هي التي تصنح تفاعلا بين الانعكاس الصادق للواقع، والمشاعر الإنسانية الحقيقية، بلا رتوش ولا تجميل، وأن هذه الأعمال حتى وإن كانت ذات إطار سياسية، فكلنا يعلم أن هذه الفترة التي يعيشها الوطن العربي فترة تحولات كبرى وحرجة؛ ما أحوجنا فيها إلى مفكرين ومبدعين حقيقين، وفنانين ومخرجين سينمائيين بوزن "خالد يوسف" ليقولوا كلمتهم بلا خوف أو وجل، فكل المبدعين الذين يملكون وجهة نظر مختلفة دفعوا ثمن هذا الاختلاف مع الأنظمة السياسية أو الاجتماعية، والسينما العربية التي عادة ما تسير مع التيار، ونادراً ما تسير عكسه، تحتاج إلى منتجات فنية تكسر هذا الركود، مثل التي يقدمها خالد يوسف، وهذه مغامرة جريئة تحسب له ليظل رمزاً وطنياً للمثقف والفنان المناضل والمقاتل لأجل قضيته الأسمى، وفي سبيل وطنه وأمته.

ما يعنيني هنا هو إنصاف المبدعين والمفكرين وحسب، متسائلةً لماذا يصبح المبدع والفنان أو المثقف الهدف الأول للخيانة، خيانة دوره، واستغلاله، وسلب منجزه، وتشويه سمعته، وصولًا إلى اغتيال دوره في المجتمع، واغتيال الدور يكمن بشكل أساسي في خلق القطيعة أو سوء فهم بينه وبين جمهوره، وأنا هنا لا أحمل العامة وحدهم مسؤولية هذا الاغتيال المعنوي و الموت المبرمج، فنحن أهل الثقافة والفن أنفسنا شركاء في هذه المسؤولية وعن هذا الخراب، نحن الفأس الذي به يحفر أعداء الثقافة قبرها وقبورنا، متناسين في كثير من الأحيان أن الفضاءات الجادة والحلقات الثقافية المستدامة، وحدها التي تستطيع أن تخلق جوا مثاليا لحماية الإبداع الخلاق والمواهب الفذة، وتعزز رعايتها والذهاب بها إلى الأمام.

وحدها هذه الفضاءات ذات التقاليد الرصينة المؤسسة على الاختلاف لا الخلاف، قادرة على حماية الإبداع وتجديد دمائه، وتخليص مبدعينا من هذا الموت الممنهج، أنا أعرف مصر بثقافتها المفعمة بالحياة، أعرف كيف يعمل أهلها ومثقفوها ونقادها بحثًا عن الأجمل والأهم والأفضل، لأنهم يعرفون بأن مهمة المثقف الذي يحب مدينته ووطنه وأمته، هي ممارسة النقد العلمي البناء، الذي لا ينضوي تحت تصفية الحسابات، ولا نشر غسيل الآخرين، و إنما هو عتاب المحب للحبيب. نهاية فإن الاغتيال المعنوي يبقى بلا شك أكبر عدو للمبدعين؛ لذا يجب توفير حماية قانونية ومعنوية للنشطاء والمفكرين والفنانين والأُدباء والمثقفين وغيرهم، حتى لا يكونوا هدفاً سهلاً في مرمى كل من يريد التخلّص منهم، والإفلات دون عقاب.

* استاذة في الجامعة الامريكية




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمان جو الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :