إتصل بنا من نحن إجعلنا صفحتك الرئيسية

صنفحـه .. القريةُ التي لا تموت


عمان جو - عمـــار البوايزة

إنَّهـــا الـدُرَّةُ والحُــرَّة التي ينثني لصــلابتها وعزمها وعزيمتها أنفُ التاريخ ، وتطيــحُ من وعْــرها ووعورتهــا رايــات الزمن النائم ، لتبقى السيِّدة المتربِّعــة على عرش القُــرى في مدينتنا ، والأمُّ الرؤوم التي أنطلق من رحمها سلالاتٌ وهاماتٌ ، والجــذر المتــين والمنبــع الأول للسُّــراة الراجلــين ممن امتشقـوا طينهـا وتينها وزيتــونها في رحلتهم فيما بعد ، فقد ضمَّت في أحضانها منابتٌ وأصــول شتى على امتــداد السنــين ، فكانت واسطـة العقــد ومملكة الصهــوة ..

وأنت تمشي عبرَ أذيـال الطريق المـسافر إليهــا تكتَــنزُ في خيــالاتك وذاكــرتك أهـــازيجُ الأمهــات ليلةَ عُرس حبيبٍ أو قريب "وسِّع الميدان" ، وتشحــذ همّتك وصبرك زغاريــد الحــرائر وهُنّ يداعبن بقلوبهنَّ الصُّـوف على بئــرها القديم ، ويُطــارحنَ غرام المغــازل على ربواتهــا وبياراتها ، وفجــأة تموجُ فيك سنابل القمــح كانَّهنَّ أسيافَ ذهبٍ في أكُفِّ أولئك الصيــد الأوائلُ من بني قومي المسكونين بتجهُّم الخريف وحرقة الصيف وكرم الشتاء ، وهم يبتلعون مُــرّ الوقت في حُــداءاتهم "منجلي وا منجــلاه" ..

حينها تدركُ كم فيها من نسيــجٍ أخضر رقــراقٍ عذب ، وكم فيك من ظمــأ لعشق تلك المتوغلة في التاريخ منذ مئتي سنة ، وكم لتغريبــة الزمان والمكــان والأهل من صوابٍ في القلب ..

وأنتَ تمشي تتبَــعُ التــواءات الطريق بعينين مدجّجتين بالإنتظـار ، وقلبٍ يراها كلّه ، وكلّهُ الآخــرُ قصيدة أتعتبتها أطلالها ، ترى أمامك إطــلالاتِ المســاء تترنِّــحُ على جبــاه العــائدين من الحقــول والبيــادر ، وحُــزمَ الحطب والقصب المبحــوح على أكتافهم ، وعلى ملامحهم مرقــدٌ للصبر وخــدرٌ للسكــون وثــورةُ المَنـــون ، فيتسللُ إليك زمهـرير الليالي الممحلة لتجدُكَ تلتقط أنفاسك وتروي ظمأك من آنيــة الفُخَّــار التي بهــا يشربون ، فتقــولُ في داخلك كأنَّمـا تُخاطبهم بقول أبي محجن الثقفي :

إذا اشتـدَّ عسرٌ فَـارْجُ يسراً فإنَّـه ... قضى الله أنَّ العسر يتبعه اليسر

هي عشرة كيلومترات فقط لتمر إليهــا من قلبِ "الطفيلة" ..

فأنتَ تمشي .. وهي تمشي بك بعيــداً .. لا لتنأى أو تختبيء ، فحشمتها ووقارها ونُبل أصلها لم يعلمْها أن تتوارى إلا عن الرَديَّــة والزللْ ..

تمشي بك بعيــداً لتُريكُ كم هي متجــذرة في الأرض والزمن بعمق سروها وكرمها و "اللزَّاب" و "الصفصاف" و "الرمّــان" مجــداً وافتخــاراً ، وكم خطــى في شعــابها وديــرها وبساتينها من حجــافل وقوافل من ســادتها ورجالاتها ، وكم تعــدّاها قطــار التطــوير والإنصــاف كباقيها من القُرى التراثية الجميلة في الوطن من قِبل عُشّــاق الكلمة والتنظــير والوعــود التي تموتُ في مهدها ، وكانَّها يشتَــدُّ فيها أسى أبي فراس الحمداني لتحاكي جــاراتها قائلة :

"أيا جارَتا ، هلْ باتَ حالُكِ حاليْ؟"

ليست هي المهجــورة ولا المنسيَّــة رغـم ضيق الأرقَّــة والمداخل ، ورغمَ جفــاء المسؤولين لها وعدم التفاتهم الى هذه الرائعة الشاكية ، ورغم تعــري بيوتها الطينية العتيقـة وإنهــيار أقواسها التي يتأسّى لها أبناؤها وزائروها ممن تشدُّهم إليها معزوفة أبي تمام : "وحنينهُ أبداً لأولِ منزلِ" ، ورغــم الحجــود والتجــاهل والنسيــان في ملفاتنا الرسمية لهذه الآدوميــة الرومانية كإرثٍ عظيم وجب الحفاظ عليه وتعزيزه ، وتوفير إمكانات الدعم ليبقى في قمــة زهوه ، خاصةً وانها تحتضـنُ على مفترقهــا مدرسةً تجاوز عُمرها أكثر من 87 سنة ، تجســد في بنائها انطلاقة التعليم في أوائله في الوطن ، فإن نظــرت الى الوراء قليلاً تسمــعُ أصـــداءً سخيَّــة وفيَّــة تترحمُ عليها من أولئك الذين تلقوا على أبوابها أول كلمة في ساحة العلم "اقــرأ" ، ممن هم نزلاء المناصب الآن أو الثَّــرى ؛ وكأنِّي حينما اقتربت منها مصــافحاً خدايهـــا ومســـائلاً عن حالها وأحــوالها أجــترع وجعَ الســؤال ولوعــة النابغــة الذبياني :

وقَفتُ فيها أصيــلاناً أســائلَهـا ... عيّتْ جَواباً وما بالرَّبعِ مِن أَحدِ
رغــم كل هــذا ورغم خــواء الخدمات ستبقى تتستر بشموخها وألَقهــا ، ولن تكون إلا بــلاد الشمس ..

"صنفحـة" ، منكِ ابتــدأ السير وإليك يعــودُ المسير ، وفي قلبك عشنا وأجــدادنا وأهلنا ، وعلى تلالك وجدنا طعماً آخــر للطفــولة الجميلة بقــدر قسوتها ومعاناتها ، ومن جــداولك وأقنيتــكِ شربنا ماء الحيــاة على اكفِّنــا ، ومن طينك جُبلنــا وجُبلَ فينــا عشقُ المكــان ؛ فأنت الحكـــاية الطاهرة وسَفــيرتنا الى الأحـــلام والأمنيات التي أتحفنــا بها المعمّــرون من بنيك ممن قضوا وفيهم منك ما يزيد على مئة سنة ، وأنت الحديث الذي لا ينتهي لكل فـــؤادٍ مشوق ..

"صنفحة" ، أيتهــا المــأوى والمُقــام الذي له تهــاجر عصــافير الحنين لتعــود إلى مهجعها وعشِّها مهما تطول بها السنين ، وتأخــذها عنك الأماكن ، فما دام لكِ فينا نبضٌ فلا خــوفٌ عليك ولا ارتيــابُ .. فليس محبيك إلا كما قال الرافعي :

ألَـم ترَ أنَّ الطَّيرَ إن جاء عشّهُ ... فــــآواهُ في أكنــافهِ يتَرنَّــمُ




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمان جو الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :