شادي سمحان يكتب: هرمتُ فجأة
عمان جو - شادي سمحانبغيابه الخاطف كصاعقة لم أعد طفلاً. هرمتُ فجأة بمجرد ما جاءني صوتُ الطبيب عبر الهاتف الصباحي: “الوالد أعطاك عمره”. وفجأة، ومن دون سابق إنذار، أحسستُ أنني كهل متهالك.لم تعد كفه المرتجفة تلوّح لي بالسلام، فلقد أعتمت الدنيا، وانشقّ قلبُ القمر.أنا الآن قشة هائمة لا مستقرَ لها في فضاء الغبار الكثيف. ريشة عصفور قصفت جناحَه الريحُ أنا، وأنا كومةُ حجارة صغيرة تجهد أن ترصّع قبرَه بالدمع والنشيج..غاب الحاج فتحي ، وغابت البركات، وأضحى علقماً طعمُ الحياة.نحاول أن نلتف حول مائدة الطعام.. نحاول أن نكتمل، لكنّ مقعدك يئنّ من الوحشة والعذاب. يحاول “راكان”الصغير وحبيب جده أن يتسلق فيأبى: الكرسي وراكان..فلمن أفتّت بعد اليوم قطعَ اللحم، ولمن أقشّر الموز، وأحضر كوب الماء البارد.. وعلى من يتسابق الأطفال كي يمسكوا يد الجد وهو يعود إلى أريكته في غرفة الجلوس؟“شادي” يروي حلمه في الليلة الظلماء، عندما جاءئه الـ “سيدو”، وقال له وهو متمدد على الفراش : “سلامتك يا حبيبي”، و”ايه” تتشح بالسواد، و”عمر” يبكي وهو مرتجفا: “الله يرحمك يا سيدو”.لا أستطيع أن أنسى، عندما كنتُ صغيراً وبريئا، كيف كنت تروي لنا القصص والحكايات كي ننام أنا وأشقائي، وتنظر إلى غد بعيد يكبر فيه الفتية الصغار، ويلوّنون حياتك بالفرح، ويزينون حياتك بالنجاح والأمل..كبُر الفتية الصغار يا ابي ، وصاروا ملءَ العين والنظر، لكنهم حينما يتلفتون الآن حولهم لا يجدونك بينهم تعطر أرواحهم بمسك حضورك الذي كان يتضوّع في دروبهم أينما حلّوا أو ارتحلوا..ولئن كانوا زرعوك وشماً فوق قلوبهم، وكحلوا أعين الدنيا بك، لكنهم ما ارتووا من نبع محبتك، لأنك قررت الرحيل، بغتة، وتركت الدمع يحفر أخاديد فوق وجناتهم..فيا أطيب الاباء : على من سألقي بعد اليوم تحية الصباح وأنا في طريقي إلى الجريدة، ويدَ من سأقبّل، ومن سوف اعيش بدعائه اليومي: “الله لا يضيعلك تعب”؟أدري أنك ترقد الآن بسلام ووداعة، فأنا أحسّ بك من دون أن تنطق بحرف، ولهذا أدركتُ عندما زرتُ قبرَك قبل ثلاثة أيام بأنك عطش، لذا أحضرتُ لك ماءً كثيراً، ورويتُ أسبوعاً من الظمأ تشقق خلاله بدنُ الإسمنت..وفي المرة المقبلة سأحضر لك ورداً أبيضَ، وأنثره فوق رخام قبرك، ولسوف أضمّخ شاهدة القبر بالعطر والياسمين، فلا تقلق ونام بسلام..ولكنني أصدقك القول، شختُ فجأة يا ابي، ولم أعد طفلاً . حزّ الغياب عنق براءتي من الوريد إلى الوريد، فاسمح لي أن أذرف دمعة وفاء على قبرك.. دمعة صامتة كي لا أوقظك من غفوتك.. دمعة لا تقول وداعاً، وإنما تنشد لك نشيد الحب الأول عندما كنت صغيراً وجميلاً، وكنت تخبئ لي الحلوى في “النملية” و”وتغاوز” معي من دون بقية إخوتي..اسمح لي أن “أغاوز” معك الآن، وأقول لك: افسح لي قربَك، كي أبيتَ، ولو ليلة، أحرسُ رقدتك من الأنين، وأقلّبك على جنبيك، وأضمّك إلى قلبي المتصدع...
عمان جو - شادي سمحان
بغيابه الخاطف كصاعقة لم أعد طفلاً. هرمتُ فجأة بمجرد ما جاءني صوتُ الطبيب عبر الهاتف الصباحي: “الوالد أعطاك عمره”. وفجأة، ومن دون سابق إنذار، أحسستُ أنني كهل متهالك.
لم تعد كفه المرتجفة تلوّح لي بالسلام، فلقد أعتمت الدنيا، وانشقّ قلبُ القمر.
أنا الآن قشة هائمة لا مستقرَ لها في فضاء الغبار الكثيف. ريشة عصفور قصفت جناحَه الريحُ أنا، وأنا كومةُ حجارة صغيرة تجهد أن ترصّع قبرَه بالدمع والنشيج..
غاب الحاج فتحي ، وغابت البركات، وأضحى علقماً طعمُ الحياة.
نحاول أن نلتف حول مائدة الطعام.. نحاول أن نكتمل، لكنّ مقعدك يئنّ من الوحشة والعذاب. يحاول “راكان”الصغير وحبيب جده أن يتسلق فيأبى: الكرسي وراكان..
فلمن أفتّت بعد اليوم قطعَ اللحم، ولمن أقشّر الموز، وأحضر كوب الماء البارد.. وعلى من يتسابق الأطفال كي يمسكوا يد الجد وهو يعود إلى أريكته في غرفة الجلوس؟
“شادي” يروي حلمه في الليلة الظلماء، عندما جاءئه الـ “سيدو”، وقال له وهو متمدد على الفراش : “سلامتك يا حبيبي”، و”ايه” تتشح بالسواد، و”عمر” يبكي وهو مرتجفا: “الله يرحمك يا سيدو”.
لا أستطيع أن أنسى، عندما كنتُ صغيراً وبريئا، كيف كنت تروي لنا القصص والحكايات كي ننام أنا وأشقائي، وتنظر إلى غد بعيد يكبر فيه الفتية الصغار، ويلوّنون حياتك بالفرح، ويزينون حياتك بالنجاح والأمل..
كبُر الفتية الصغار يا ابي ، وصاروا ملءَ العين والنظر، لكنهم حينما يتلفتون الآن حولهم لا يجدونك بينهم تعطر أرواحهم بمسك حضورك الذي كان يتضوّع في دروبهم أينما حلّوا أو ارتحلوا..
ولئن كانوا زرعوك وشماً فوق قلوبهم، وكحلوا أعين الدنيا بك، لكنهم ما ارتووا من نبع محبتك، لأنك قررت الرحيل، بغتة، وتركت الدمع يحفر أخاديد فوق وجناتهم..
فيا أطيب الاباء : على من سألقي بعد اليوم تحية الصباح وأنا في طريقي إلى الجريدة، ويدَ من سأقبّل، ومن سوف اعيش بدعائه اليومي: “الله لا يضيعلك تعب”؟
أدري أنك ترقد الآن بسلام ووداعة، فأنا أحسّ بك من دون أن تنطق بحرف، ولهذا أدركتُ عندما زرتُ قبرَك قبل ثلاثة أيام بأنك عطش، لذا أحضرتُ لك ماءً كثيراً، ورويتُ أسبوعاً من الظمأ تشقق خلاله بدنُ الإسمنت..
وفي المرة المقبلة سأحضر لك ورداً أبيضَ، وأنثره فوق رخام قبرك، ولسوف أضمّخ شاهدة القبر بالعطر والياسمين، فلا تقلق ونام بسلام..
ولكنني أصدقك القول، شختُ فجأة يا ابي، ولم أعد طفلاً . حزّ الغياب عنق براءتي من الوريد إلى الوريد، فاسمح لي أن أذرف دمعة وفاء على قبرك.. دمعة صامتة كي لا أوقظك من غفوتك.. دمعة لا تقول وداعاً، وإنما تنشد لك نشيد الحب الأول عندما كنت صغيراً وجميلاً، وكنت تخبئ لي الحلوى في “النملية” و”وتغاوز” معي من دون بقية إخوتي..
اسمح لي أن “أغاوز” معك الآن، وأقول لك: افسح لي قربَك، كي أبيتَ، ولو ليلة، أحرسُ رقدتك من الأنين، وأقلّبك على جنبيك، وأضمّك إلى قلبي المتصدع...
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات